حزب الله والاحتلال- هل ضاعت فرصة نصر استراتيجي في لبنان؟

المؤلف: سعيد زياد09.30.2025
حزب الله والاحتلال- هل ضاعت فرصة نصر استراتيجي في لبنان؟

في مستهل عدوانه على لبنان، أطلق الاحتلال عملية سماها "سهام الشمال"، وهي أقل تصنيفًا من حيث العمليات العسكرية حتى من حرب لبنان الثانية في يوليو/تموز 2006، والتي أطلق عليها اسم "حرب". هذا التصنيف يعكس أن الأهداف المعلنة للعملية لم تكن تستدعي خوض معركة بحجم حرب، بل كانت تقتصر على عملية عسكرية محدودة ترمي إلى إعادة مستوطني الشمال إلى ديارهم فقط.

استنادًا إلى تقديرات الاحتلال لقوة حزب الله، بدا واضحًا أنه بجيشه المرهق لن يكون قادرًا على الدخول في حرب شاملة مع تنظيم بحجم "غول". فمثل هذا الاشتباك كان سيؤدي إلى سقوط آلاف القتلى من المستوطنين في مدن المركز الإسرائيلية، وإلى وابل من الصواريخ يصل إلى ثلاثة آلاف صاروخ يوميًا تضرب تل أبيب وقيسارية وهرتسيليا، بالإضافة إلى خسائر فادحة وغير مسبوقة في صفوف جنوده المقاتلين، قياسًا بمعارك بنت جبيل ووادي الحجير.

لذلك، اعتمد الاحتلال خطة متواضعة تحفل بقدر ضئيل من المخاطر، وترتكز بشكل أساسي على احتكاك محدود مع حزب الله على طول الحدود، وتوجيه ضربة وقائية ضده لا تتجاوز بلدات الحافة الأمامية.

بيد أنه بعد الضربات الهائلة التي نفذها الاحتلال ضد الحزب، وبعد مرور أيام من القتال امتنع خلالها حزب الله عن توسيع نطاق النيران، وعن استهداف تل أبيب حتى بعد اغتيال أمينه العام، ومع تهجير مليون مواطن لبناني من بلدات الجنوب في غضون يوم واحد، ومقتل ما يربو على 500 شخص، اكتشف الاحتلال أن مخاوفه من "الوحش الكامن" في الشمال كانت مبالغًا فيها إلى حد ما. عندها، لجأ إلى تعديل أهداف الحرب ومسارها، وبدأ يطالب بأكثر من ذلك بكثير.

اندلعت الحرب، وشهدت مواقع الحافة الأمامية قتالًا شرسًا، تكبد على إثره جيش الاحتلال عناءً جمًا في التقدم في عمق منطقة العمليات. وبدا جليًا عدم قدرة الفرق العسكرية الست على إقحام آلياتها العسكرية في مناطق القتال، خشية من الصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة، والاكتفاء بالوحدات الخاصة للسيطرة على المواقع. ومع هذه الصلابة الدفاعية، وإعادة تنظيم الحزب لصفوفه بعد فترة من الارتباك دامت عشرة أيام، ومع دخول حيفا على خط القصف بشكل يومي، ودخول تل أبيب أحيانًا، عادت أهداف الكيان إلى الانكماش مجددًا، من تدمير حزب الله إلى تدمير قرى الحافة الجنوبية فحسب!

بالتأمل في تصريحات قادة الكيان، وعلى رأسها تصريح غالانت الذي قال فيه: "سندمر الخط الأول من القرى في لبنان ولن نسمح بعودة حزب الله"، يتضح حجم التراجع والانكسار في التصريحات، من تحقيق أهداف إستراتيجية كبرى تتمثل في كسر حزب الله، ونزع سلاحه، وإنهائه كقوة سياسية مهيمنة، إلى مجرد الاكتفاء بتدمير قرى الحافة والأمامية.

في خطابه الثالث بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أعلن الشيخ نعيم قاسم عن توسيع نطاق المواجهة من الإسناد إلى مواجهة العدوان، والشروع في مرحلة جديدة أسماها "إيلام الاحتلال". تبع ذلك بعد أيام استهداف دقيق لغرفة نوم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في منزله في قيسارية بطائرة مسيرة، واستمرت الضربات بعد ذلك بشكل متتابع، بمستوى أحدث ضغطًا غير مسبوق على الجبهة الداخلية للكيان، حيث لجأ على إثر هذه الهجمات أربعة ملايين مستوطن إلى الملاجئ.

بدلًا من استغلال هذا الزخم الناري، والصمود الكبير للأنساق الدفاعية، وافق حزب الله على عجل – تحت وطأة الضغط العسكري – على اتفاق لوقف الحرب، الأمر الذي أثار جملة من التساؤلات، من بينها: هل أخطأ حزب الله في قراءة الموقف الإستراتيجي للحرب، وتوّج هذا الخطأ بخطأ أكبر بذهابه لتوقيع اتفاق وقف الحرب؟ أم أن هذا كان أفضل ما يمكن لحزب الله أن يفعله بعد الخسائر القاسية التي مُني بها؟

هل بذل حزب الله قصارى جهده، وتوصل إلى أفضل اتفاق ممكن يحقق له الحفاظ على قوته العسكرية والسياسية، بدلًا من الاستمرار في معركة قاسية ستكلفه أضعاف ما خسره؟ وما هي آثار هذا الاتفاق على الصعيدين التكتيكي والإستراتيجي؟

بالنظر إلى ما حققته إسرائيل وما خسرته في هذه الجولة الأشد شراسة في القتال مع لبنان منذ عام 1982، وإلى ما انتهت إليه من اتفاق، وإلى وضعية المقاومة في مختلف الجبهات على الصعيدين العملياتي والتفاوضي، يمكن القول إن انسحاب حزب الله من القتال، وتوقيعه اتفاقًا منفردًا بمعزل عن بقية الجبهات، مخالفًا بذلك المسار الإستراتيجي الذي أرساه السيد حسن نصر الله، فوّت على نفسه وعلى جبهات المقاومة فرصة سانحة لتوجيه ضربة قوية للمشروع الصهيوني، في أهم معركة إستراتيجية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة وأن جيش الكيان يعاني من حالة إنهاك شديد في قواته النظامية، وكذلك في منظومة الاحتياط التي تعاني أزمة كبيرة تلقي بظلالها على جبهته الداخلية، لا سيما مع تفاقم أزمة تجنيد الحريديم.

وقد ذكر ذلك رئيس وزراء الاحتلال صراحة في خطابه إبان وقف إطلاق النار، معللاً وقف الحرب بأحد الأسباب الرئيسية بقوله: "إعطاء قواتنا قسطًا من الراحة وتجديد مخزون الأسلحة".

ما قصده بذلك هو أن وقف القتال في الشمال سيتيح للكيان إعادة تعبئة مخازن الأسلحة الخاصة به وترميم المعدات القتالية الدفاعية والهجومية، ومنح قواته النظامية والاحتياطية فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة التنظيم والانتعاش بعد أربعة عشر شهرًا كاملة من الحشد والتعبئة والقتال.

ناهيك عن تحرير شحنات أسلحة مجمدة في الولايات المتحدة، كالقنابل الثقيلة والمعدات الهندسية الثقيلة، وهو ما سيعزز من مستوى تحضيره وجاهزيته. كما أن ذلك سيحرر الكيان – بطبيعة الحال – من قدر لا يستهان به من الضغط المتشكل عليه جراء أزمة الحريديم، والتي تعتبر من أهم الأزمات الداخلية في دولة الكيان، والتي تهدد – بسبب تفاقمها في هذه الحرب – بأزمة سياسية واجتماعية حادة.

إضافة إلى تفويت هذه الفرصة، أضاع حزب الله على نفسه فرصة تحقيق صورة نصر مماثلة لتلك التي حققها في حرب يوليو/تموز 2006، واختار الخروج العاجل من هذه الحرب بصورة "الجريح"، متحملاً خسائر فادحة في صفوف قادته وجنوده وبنيته التحتية وهيبته الداخلية، بدلاً من المراهنة على إعطاء المعركة المدى الزمني الكافي، وتوريط جيش الاحتلال المرهق في مزيد من المعارك الطاحنة في الجنوب، والتي كان من المرجح أن تمنحه صورة نصر تحفظ له حالة الردع مع الكيان، وحضورًا داخليًا مهيبًا كالمعتاد. بمعنى أن ما استمده حزب الله من صور انتصارات بنت جبيل ووادي الحجير كان بمثابة قوة دافعة طيلة العقدين الماضيين.

لم يتح لنفسه الفرصة للمراهنة على تحقيق إنجاز مماثل في هذه الحرب، فلم يسعَ مثلاً لتحقيق إنجاز ميداني يضيف إلى رصيده نقاط قوة تمثل عاملاً قادراً على إحداث تغيير في معادلة الحرب، مثل أسر جنود إسرائيليين، بل حتى لم يبادر إلى تنفيذ ضربة ختامية موجعة في عمق الكيان تبقى شاهدًا ودليلاً على قوة حزب الله، والأدهى من ذلك أنه لم يسعَ للمطالبة بوقف إطلاق نار – ولو إنسانيًا – في غزة بالتزامن مع إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، وخرج الاحتلال من الحرب بصورة الجيش الذي وصلت قواته إلى نهر الليطاني.

كما أن الفصل الذي تحقق في الجبهات من شأنه أن يلقي بظلاله السلبية على وضعية المقاومة (إستراتيجيًا) كذلك، حيث شكل ضربة قاصمة في نظرية وحدة الساحات – التي مثلت معركة طوفان الأقصى الاختبار الحقيقي الأول لها – مما سيترك جرحًا عميقًا في بنية محور المقاومة، وسيثير الكثير من التساؤلات المتعلقة بجدوى هذه النظرية.

وهذا يقودنا إلى ما قاله السيد حسن نصر الله حول ما سببه فصل الجبهة المصرية عن الجبهة السورية في حرب أكتوبر/تشرين الأول من تضييع لفرصة إستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قال: "هذه الوحدة التي تحققت في حرب تشرين كادت أن تصنع نصرًا تاريخيًا حاسمًا، لولا تفرد الرئيس أنور السادات بوقف إطلاق النار، وبقاء الجبهة السورية وحيدة هو الذي ضيّع هذه الفرصة التاريخية".

اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان هذا الاتفاق بمثابة إنجاز كبير للسياسة الأميركية في المنطقة، إذ صرح قائلاً: "إننا استطعنا بهذا الاتفاق تجنب انخراط الولايات المتحدة الأميركية في حرب إقليمية في الشرق الأوسط". هذه الخسارة أضاعت على المقاومة فرصة تاريخية قد لا تتكرر.

أخيرًا، لا يسع أي فلسطيني إلا أن يتقدم بالشكر والثناء إلى لبنان، شعبًا ومقاومة، وقادة ومقاتلين، على ما قدموه من تضحيات جسيمة، عجزت عن حملها جيوش العرب وشعوبها. وما هذه إلا توضيحات مستحقة للمآلات التكتيكية والإستراتيجية لاتفاق وقف الحرب، وهي لا تنتقص أبدًا من قيمة التضحية والفداء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة